الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقول الآخر: الطويل: ف تؤخذ بدل اشتمال من تبايع، وكذا تُلْمِم بدلٌ من تَأْتِنَا.وعلى هذين القولين، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب.والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك- وإن توهّم بعضهم ذلك- وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها.ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالًا من الضَّمير المستكن في يقول تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.وأجاز أبو البقاء أن يكون حالًا من الضمير المستكن في {بمؤمنين} والعامل فيها اسم الفاعل.وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: ما زيد أقبل ضاحكًا، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان:أحدهما: نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى: أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني: نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان.الطريق الثاني: أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى- أيضًا- غير مراد بالآية الكريمة قطعًا، أعني: نفي الإيمان والخداع معًا، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالًا من الضمير في {بمؤمنين}.والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل {مؤمنين}؟ قال: لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالًا من ضمير {بمؤمنين} ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.والخداع أصله: الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان: عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعًا: إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع: إذا كان مخالفًا للمقصد، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع: أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه.وقيل: هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر: الرمل: أي: فسد.ومعنى {يُخَادعون الله} أي: من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى.وقيل: لعدم عرفانهم بالله- تعالى- وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع.وقال الزَّمخشري: إن اسم الله- تعالى- مُقْحَم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب: أعجبني زيد وكرمه.والمعنى: أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر زيد توطئةً لذكر كرمه.وجعل ذلك نظير قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله- تعالى- بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى.وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزًا لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيرًا لقوله تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98].والمصدر الْخِدْع بكسر الخاء، ومثله: الخديعة.وفَاعَلَ له معانٍ خمسة:المشاركة المعنوية نحو: ضارب زيد عمرًا.وموافقة المجرد نحو: جاوزت زيدًا أي: جُزْتُه.وموافقة أفعل متعديًا نحو: باعدت زيدًا وأبعدته.والإغناء عن أفعل نحو: واريت الشيء.وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية فَاعَل فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن.أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله- تعالى- تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا، ومُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله- تعالى- فيهم، وأما كونه بمعنى المُجّرَّد، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ {يَخْدَعُونَ}.وقرأ أبو عمرو والرميان {ومَا يُخَادِعُونَ} كالأولى، والباقون {ومَا يَخْدَعُونَ} فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد، أي: يكون فَاعَلَ بمعنى فَعَل، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يُخَادعون أنفسهم، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك، فكأنها مُحَاورة بين اثنين، ويكون هذا قريبًا من قول الآخر: المنسرح. وقال آخر: الطويل: قال الزمخشري: الاقتصار بخادعت على وجهه أن يُقَال: عني به فعلت، إلا أنه على وزن فاعلت، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَال لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة.وقرئ: {وَمَا يُخَدِّعَونَ} ويُخَدِّعُونَ من خَدَّعَ مشددًا.و{يُخَدِّعَونَ} بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون، فأدغم.وقرئ: {وما يُخْدَعُونَ} {ويُخَادَعُونَ} على لفظ ما لم يسم فاعله، وتخريجها على أن الأصل: وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ: الوافر: {إلا أنفسهم} {إلا} في الأصل حرف استثناء و{أنفسهم} مفعول له، وهذا استثناء مفرغ، وهو: عبارة عما افتقر فيه ما قبل {إلا} لما بعدها، ألا ترى أن {يخادعون} يفتقر إلى مفعول؟ ومثله: ما قام إلا زيد، فقام يفتقر إلى فاعل، والتَّام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قيل {إلا} لما بعدها، نحو: قام القوم إلاّ ويدًا، وضربت القوم إلا بكرًا، فقام أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي، أو شبهة كالاستفهام والنهي.وأن قولهم: قرأت إلاّ يوم كذا، فالمعنى على نفي مؤول تقديره: ما تركت القراءة إلاَّ يومًا، هذا ومثله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] و{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45].وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى.والنَّفْسُ: هنا ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، {وَمَا يَشْعُرُونَ} هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف، وأن يكون لها محلّ، وهو النصب على الحال من فاعل {يخدعون} والمعنى: وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك، ومفعول {يشعرون} محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم، واطّلاع الله عليهم.والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلِّقه، والأوّل يسمى حذف الاختصار، ومعناه: حذف الشيء بدليل.والثاني يسمى حذف الاختصار، وهو حذف الشيء لا لدليل.والشُّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته.وقيل: هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعِر، وهو ثوب يلي الجَسَد، ومنه مشاعر الإنسان أي: حواسّه الخمسة التي يشعر بها. اهـ.
|